الرؤية الّتي قدّمها يِغالْ أَلونْ | فصل

«أكبر سجن على الأرض» لإيلان بابيه

 

يقدّم المؤرّخ إيلان بابيه، في كتابه «أكبر سجن على الأرض»، عن دار «هاشيت أنطوان - نوفل» في بيروت، إثباتًا ملموسًا على أنّ حرب 1967 لم تكن نتيجة حتميّة لتصاعد التوتّر بين إسرائيل وكلّ من سوريا ومصر، وذلك من خلال وثائق يُكشفُ عنها للمرّة الأولى.

في هذا الفصل الذي تنشره فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة، بإذن من الناشر، يتطرّق بابيه إلى ما يُعْرَفُ بـ«خطّة آلون»، وهي إحدى الخطط الّتي طُبِّقت بعد احتلال الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة وهدفت إلى تثبيت سياسة التوسّع الصهيونيّة في الأراضي المحتلّة عام 1967.

***

 

في ما هو أبعد من إطار «القدس الكبرى» وضرورة ترسيم حدود الأراضي المكتسبة حديثًا بطريقة تُشْبِعُ نهم إسرائيل التوسّعي وتهدّئ المخاوف الديموغرافيّة، كانت ثمّة حاجة إلى مقاربة أكثر تنظيمًا، وتتسم برؤية مستقبليّة إلى حدّ ما. تولّت تقديم تلك المقاربة شخصيّتان بات اسماهما مألوفين عند ذكر أسماء أبطال إسرائيل؛ إيغال آلون وموشيه ديّان. خلال مراحل التأسيس الحاسمة الأولى، كان آلون هو المساهم الأكبر بتنسيق تلك السياسة، ولم يكن ديّان يتدخّل إلّا حين يهتمّ بوضع خطط بعيدة المدى، لكنّه كان في الواقع رجل المهمات المحدّدة، والمشاريع قصيرة الأمد. ولم يكن التخطيط البعيد المدى يومًا من مواطن قوّته.

تسلّم آلون زمام السلطة باكرًا. ففي سنّ الثلاثين، كان قائدًا لسرايا البلماح، وحدات النخبة الصهيونيّة، وقد كُلّف تطهير القرى والمدن الفلسطينيّة في أرجاء مختلفة من البلاد عام 1948. وقد وصفته أنيتا شابيرا، الكاتبة الصهيونيّة الّتي أرّخت بصدق سيرة حياته، بـ«مطهّر الشمال» في 1948، وهو كان فعلًا كذلك. كان آلون مثال اليهوديّ الجديد – الّذي يكاد ينتمي إلى العرق الآريّ – والّذي كانت الصهيونيّة تتوق إليه ليكون نقيض نموذج اليهوديّ «المنفيّ». كان آلون رجلًا وسيمًا وصاحب كاريزما وشجاعًا، وقد برز بصفته مرشّحًا لزعامة الحركة الصهيونيّة في المستقبل، إلّا أنّ ذلك لم يتحقّق قطّ. فعلى مرّ السنوات تمكّن سياسيّون أكثر أنانيّة ومكرًا من تهميشه، ولم يتسنّ له يومًا تأدية الدور الّذي أراده هو وأراده له المعجبون به.

 

يِغالْ أَلونْ | بيرت فيرهويف - Anefo

 

بعد حرب 1948، انْتُخِبَ آلون عضوًا في الكنيست، وحاول لاحقًا متابعة دراسته لنيل شهادة دكتوراه في الفلسفة من كلّية «سانت أنطوني» في «جامعة أوكسفورد»، بإشراف المؤرّخة الشهيرة إليزابيث مونرو، لكنّه سرعان ما تخلّى عن ذلك. ولا يزال في قاعة صغار الطلّاب في «أكسفورد» كرسيّ حقيقيّ باسمه، إحياءً للفترة الّتي قضاها فيها. عندما عاد إلى إسرائيل في مطلع الستّينيّات، انضمّ إلى الحكومة، حيث شغل في معظم الوقت منصب وزير العمل. قدّم له احتلال الضفة الغربيّة وقطاع غزّة الفرصة لاستعادة أمجاده السابقة الّتي تلاشى وهجها في السنوات الّتي تلت حرب 1948، حين كان خارج المؤسّسة العسكريّة.

لم يكن يولي وزارة العمل أهمّية خاصّة، ولم تكد حرب 1967 تنتهي حتّى ركّز اهتمامه الكامل على جهود الاستيطان في الأراضي المحتلّة، وتحوّلت إلى شغله الشاغل.

غالبًا ما وصف الباحثون جهوده في هذا الإطار على أنّها محاولة لإيجاد حلّ للصّراع. وجرى تقديمه أساسًا على أنّه أب «الخيار الأردنيّ»، فقد حاول التوصّل إلى تسوية بين إسرائيل والأردنّ حول أراضي الضفة الغربيّة وقطاع غزّة، لكنه أعاد النظر فيها لاحقًا عبر استبدال السيادة الأردنيّة بالحكم الذاتيّ الفلسطينيّ.

في يوليو 1967، طرح آلون على الحكومة «خطّة آلون» الشهيرة، تحت عنوان «مستقبل المناطق (الفلسطينيّة) وطرق معالجة مسألة اللّاجئين». ومع أنّها لم تُعْتمد يومًا بشكل رسميّ، إلّا أنّها استُعملت كخطّة تسمح بتحديد المواقع المنويّ استيطانها، أكثر منها كمسوّدة اتّفاقيّة سلام مع الأردنّ. باستثناء كتل المستوطنات اليهوديّة، كان القسم المتبقّي من الضفة الغربيّة ينعم بحكم ذاتيّ أو يخضع لسيادة أردنيّة منزوعة السلاح.

كان المبدأ الأوّل في هذه الخطّة أن يشكّل نهر الأردنّ الحدود الشرقيّة لإسرائيل، وأن يكون للأردنّ رقعة أرض ضيّقة بالقرب من أريحا، تشكّل له معبرًا برّيًّا إلى المناطق الجبليّة في الضفة الغربيّة. وقام آلون بتحديد المناطق الأصلح للاستيطان اليهوديّ مستقبلًا، في محيط الخليل والقدس وغور الأردنّ.

يعود الفضل إلى الحكومة الأردنيّة أنّها كانت من بين أولى الأطراف الّتي أدركت أنّ الهدف من الخطّة هو تهدئة قلق إسرائيل حيال الديموغرافيا، وأنّها لا ترمي إلى تجنّب وقوع صراع جديد، عاد واندلع لاحقًا، بعد بضع سنوات. ومن جهتها، لخّصت السفارة الأميركيّة في عمّان الموقف الأردنيّ من خطّة آلون قائلةً:

«يبدو أنّ الإسرائيلييّن لا يستوعبون أنّ خطّة آلون ومتغيّراتها ليست فقط مرفوضة من الأردنّ، بل تمثّل أيضًا تسوية تسمح باستمرار حالة العداء إلى ما لا نهاية. ولو نظرنا إلى تسويات مشابهة في دول أخرى من العالم خلال القرن العشرين، لرأينا أنّها تولّد المشاكل وتثير المطامع بدلًا من أن تضمن الأمن.»

أرى أنّ ما سبق من وصف ليس سوى تأريخ مغلوط لذلك الرجل ولأفعاله في 1967 والسنوات التالية. الواقع أنّ آلون لم يكن يسعى للتوصّل إلى تسوية، بل إلى التوسّع. كان أوّل مَنْ بحث عن أفضل طريقة لاستغلال الاستيطان اليهوديّ لضمان قضم المساحة الجغرافيّة من دون دمج السكان. وقد تحوّلت هذه المشكلة إلى معضلة إسرائيل الأبديّة، وشغلها الشاغل منذ إنشاء الدولة بشكل عامّ، وفي ما يتعلّق بالضفة الغربيّة منذ 1967 على وجه التحديد. لقد تصوّر وبنى سلسلة من المستوطنات اليهوديّة فصلت الفلسطينيّين عن بعضهم البعض، وأدّت إلى ضمّ أجزاء من الضفة الغربيّة إلى إسرائيل.

 

 


إيلان بابيه

 

 

مؤرّخ إسرائيليّ ينتمي إلى تيّار المؤرّخين الجدد في إسرائيل، الّذين قاموا بإعادة كتابة التاريخ الإسرائيليّ وتاريخ الصهيونيّة. درّس بجامعة «حيفا»، ويدرّس حاليًا بجامعة «إكستر» في بريطانيا بعد أن ترك العمل والعيش في إسرائيل. يُعْتَبرُ من أبرز دعاة حلّ الدولة الواحدة، كما أنه من مؤيّدي مقاطعة المؤسّسات التعليميّة الإسرائيليّة.